سيرة

شاعرة وباحثة أكاديمية وعلمية في الحقلين الثقافي والأدبي / خبيرة إعلامية للعديد من الدورات التدريبية المتخصصة في مؤسسة دبي للإعلام،ومساهمة في تميز المؤسسة عبر إطلاق أوائل البرامج الثقافية الحوارية على مستوى الخليج العربي / حائزة على جائزة المرأة الديناميكية للعام 2011 على مستوى القارات من جامعة جورج واشنطن بالولايات المتحدة الأميركية، لتنال بذلك أول جائزة عالمية تمنح لقصص نجاح نساء حول العالم قدمن تجارب مضيئة، ولتدرس قصتها لطلبة الجامعة ضمن أكبر شبكة عالمية (أون لاين) / ترجمت قصائدها إلى سبع لغات / حاصلة على دكتوراه في النقد الأدبي - تقدير امتياز عام 2004م

الثلاثاء، 18 أكتوبر 2011

الشهرة زائفة والشعر هو الخلاص

جريدة الخليج / الخليج الثقافي

بروين حبيب في مجموعتها الشعرية "أعطيت المرآة ظهري"

 بقلم:الشاعر اللبناني شوقي بزيع
ثماني سنوات هي المسافة الزمنية الفاصلة بين مجموعة الشاعرة البحرينية بروين حبيب الأولى “رجولتك الخائفة طفولتي الورقية” الصادرة عام 2001 ومجموعتها الثانية “أعطيت المرآة ظهري” الصادرة نهاية العام الفائت . وهو نتاج قليل على المستوى الكمي إذا ما قيس بالمعدلات الزمنية المتوسطة لإصدارات الشعراء والتي لا تزيد في العادة على السنوات الثلاث أو الأربع . على أن الثبت المتعلق بحياة الشاعرة وسيرتها في نهاية الكتاب والذي يشير إلى عملها الشاق والدؤوب في مجالي الإعلام المسموع والمرئي منذ سنوات عدة هو الذي يفسر قلة إصداراتها الشعرية، باعتبار أن الشعر يتطلب تفرغاً شبه كامل لمزاولته ولا يقبل القسمة مع أي مشروع أساسي موازٍ له . وأعتقد أن المعاناة التي تعيشها بروين في تمزقها الدائم بين متطلبات الشاشة المرهقة ومتطلبات الشعر الأكثر إرهاقاً لا تنحصر بها وحدها، بل تنسحب على مجموعة من الإعلاميين الشعراء والكتّاب أمثال جوزف عيساوي وزاهي وهبي وأحمد علي الزين وآخرين غيرهم.
لا يعني ذلك بأي حال إعطاء حكم على الشعر من خلال التراكم الكمي وحده أو من خلال عدد المجموعات المنشورة لهذا الشاعر أو ذاك، الأمر الذي لم يكن معياراً أساسياً للحكم على أوزان الشعراء، إلا أن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى مدى ما يستنزفه العمل التلفزيوني من طاقات وجهود وأوقات،  كان يمكن في حال تكريسها للكتابة والقراءة أن تتيح للشعراء فرصاً أوفر في إغناء تجاربهم وتعميقها . على أن هذه الملاحظة، على وجاهتها، لم تمنع بروين حبيب، وبخاصة في مجموعتها الأخيرة، من تقديم نصوص متميزة وشديدة الصلة بالحياة، إضافة إلى خفوتها وحميميتها البالغة . كأن ثمة رغبة لدى الشاعرة في التخفف من بهرجة الأضواء المحيطة بها وثقل النجومية التي اكتسبتها من خلال ظهورها الدوري على الشاشة، بحيث تبدو قصائدها فرصة سانحة للاختلاء بالذات والهروب إلى الداخل بعيداً من ضوضاء العالم ولمعانه الخلبي.
وما يلفت في المجموعة هو أن صاحبتها لا تكتب ما تكتبه وفق حاجات السوق ومتطلباته، حيث يرزح بعض الشعراء تحت ثقل الكليشيهات والشعارات الأيديولوجية والسياسية ويلعب  بعضهم الآخر على وتر الغرائز المبتذلة والإيروتيكية المفرطة، بل هي تحرص على إعلاء العاطفة، وتمجيد الحب الإنساني والإخلاص لما هو أبعد من الجسد الغريزي والشهوات العارضة . ثمة   حدب على أنوثة أخرى تتفتح بين الضوء والظل مسربلةً بالخجل والصمت، وظامئة كالوردة إلى ما يرفدها بماء الحب ويعصمها من الغربة والذبول . وهو ما نتلمسه بوضوح في قصيدة “أنا الأقحوانة” التي تجسد بصدقها وحرارتها الجانب الأكثر شاعرية في شخصية بروين حبيب: “ذهب  الرجال إلى ظلالهم/ وتُركت في حيرتي/ أنا الوردة العابقة بفكرة الحب/ نضرة وذابلة ومصوحة الألوان/ أمر بنافذتي موصدة/ ويمر بي النهار غريباً/ ذهب  الرجال إلى شمس أعمالهم/ وتُركت أنا الأقحوانة في الظل/ أشرب نور أمسيتي”.
هذه المناطق الدافئة واللصيقة بالنفس التي تلامسها بروين حبيب في الجانب الشعري من روحها، تتعارض إلى حد بعيد مع الصورة المتكلفة التي يفرضها عليها وجودها في الضوء المبهر وأمام عدسات الكاميرات، لذلك فهي لا تجد حرجاً في مكاشفة القارئ بما تعيشه من تناقض صارخ بين صورتها في التلفزيون وصورتها في الحياة الحقيقية، ولعل قصيدة “ابتسامتي في التلفزيون” تعبّر بوضوح عن الغربة التي تعيشها الشاعرة في أعماقها، وعن حاجتها الماسة إلى استعادة طفولتها المتوارية وراء ركام السنوات والمشقات، وفيما يحضر ضمير المتكلم المفرد بشكل دائم بين قصائد المجموعة وسطورها، فإن الأنا المتكررة لا تبدو ثقيلة الوطأة على نفس القارئ، ولا تشبه النرجسيات السمجة والمفرطة في فجاجتها لبعض الشعراء، بل هي الأنا الأنثوية الخفرة والمجروحة بأكثر من طعنة: “أنا المتروكة في ظلال أبعد/ وقلبي حكاية وجلة/ شوق بلا خيوط في نهار بلا عمر/ وطفلة تتذكر نافذة تحت المطر/ صورتي التي كنت أشبه/ صورتي التي لم أر/ ابتسامتي في التلفزيون يوم الأحد/ وقلبي رماد يوم مضى” . وأحياناً تكون الأنا نوعاً من الحاجة الملحة إلى جمع شمل الهوية القلقة والمشتتة: “من أنا تلك التي تطوف غريبة في عتمة الحكاية. . من أنا في المدينة/ من أنا في سريري/ وفي السفر وراء الكلمات؟”
قد تكون المرآة في وجوهها ودلالاتها المختلفة هي القاسم المشترك الأكثر حضوراً في قصائد بروين حبيب . ليس فقط بسبب ذلك الجناس شبه التام الذي يقوم بين تسميتي المرأة والمرآة، أو بسبب ما وصفه محمود درويش في إحدى قصائده بوفاء المرأة الأبدي لمرآتها “وأعرف أن النساء تخون جميع المحبين إلا المرايا”، بل بسبب خوفين مزمنين يلازمان الشاعرة في أعوامها القليلة المنصرمة: الخوف من الشهرة والنجومية المفرطتين اللتين تحرمان الإنسان من الإصغاء إلى حقيقة نفسه، والخوف من انكشاف الوجه أمام تصرم الزمن ومروره السريع.
في قصيدتها “نحن الثلاثة” تجعل بروين من المرآة الطرف الثالث في العلاقة بينها وبين الحبيب، أو بينها وبين القصيدة، أو بينها وبين الزمن . وإذا كانت الشاعرة تتحرج من وصف المرآة بالشيطان الذي يوسوس في الصدر، فهي تصفها باللص الحائر على مدخل بستان بلا أبواب أو بالمرأة الأخرى التي تنظر إليها، وترسم ما تراه أو تقرؤها وتدون ما قرأته . وهي إذ تعطي للمرآة ظهرها، كما ورد في عنوان المجموعة، لا تلبث أن تجلس بعد ذلك في جوار المرآة متسقطة وجه رجل يمر أمام مرآتها، كما جاء في إحدى القصائد، ومخاطبة إياه بقولها “بين يدي والمرآة صورتك”، أو مقتفية من خلال المرآة صوراً شتى لظلال الطفولة المنهكة.
مقابل ذلك العالم المخاتل أو الموحش أو المطبق على الصدر الذي يرتسم في العديد من قصائد بروين حبيب، تبدو استعادة صورة الأم في قصيدة “زليخة” تعبيراً بديهياً عن حاجة الشاعرة إلى نقاء الحياة الأولى المشبعة بالنذور والتراتيل، أو إلى الماء الأول المتروك في دمع الوسائد، بحسب تعبيرها الحرفي، وليس غريباً في حالة كهذه أن تلامس اللغة حدود شفافيتها القصوى وتصبح أقرب إلى التضرع والهدهدة والدعاء منها إلى أي شيء آخر: “خذيني إلى حفيف أقمطتي البيضاء/ امنحي سمائي غيومها الحبلى/ وفي خالص الغفوة هزي سريري لأستيقظ/ وأنظر عينك الساهرة . ./ زليخا/ دعاؤك غيمة في سماء المنامة/ دعاؤك الياسمين يفوح سره . ./ أمددك في حديقة الكلمات وأفوز بطفولتي/ وكلما هبت يدك باركتُ زهو الدم”.
ليس ثمة، أخيراً، من إفاضة أو ترسل مضجر في شعر بروين حبيب، إنه شعر اختزال وإيماء وبوح خاطف بقدر ما هو محاولة أخيرة لرأب صدوع الروح ومنعها من التصحر والتلف، أو من الانزلاق خلف سراب الشهرة الخادع، وهو شعر وشوشة وهمس ومساررة مع الذات التي يثقلها الإحساس بالوحشة وغياب الحب.
وإذا كانت القصائد بمعظمها تندرج ضمن خانة قصيدة النثر، فإن القصيدتين الأوليين تخرجان عن السياق، وتتبعان النمط التفعيلي الذي تجيده الشاعرة كما يبدو، ولو أنها لم تشأ أن تحصر كتابتها في خيار إيقاعي وأسلوبي واحد .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق