بقلم/ عبد الله العباسي
جريدة الأيام / العدد 5100 / 20 فبراير 2003
عندما أطلق سيد بحور الشعر الخليل بن أحمد الفراهيدي عبارته المشهورته "المتبحر في فن، يفهم في الفنون الأخرى" حاول أحد مشايخ الدين الذي كان يغار من مكانته لدى الخليفة تحويل العبارة إلى سلاح ضده، ليحرجه أمامه.
استغل الشيخ تواجد الفراهيدي معه وسط جمع من الحضور أمام الخليفة ليحرجه، فسأله أأنت القائل:"إن المتبحر في فن، يفهم في الفنون الأخرى"؟ أجابه الفراهيدي بنعم، فقال الشيخ: أنا متبحر في الدين وأنت متبحر في اللغة فهل أسألك سؤالا في الدين؟ أجاب الفراهيدي تفضل، فطرح الشيخ سؤالا محرجا لا يخطر على بال أحد فقال: إذا شك أحد المصلين في عدد ركعاته يسجد ما يسمى بسجدة السهو، فلو شكّ في عدد ركعات سجدة السهو ذاتها، فهل يعيدها؟ فكر الفراهيدي برهة ثم قال: لا يعيدها، فاستغرب الشيخ من صحة الرد على هذا السؤال الصعب، فقال الشيخ:هذا صحيح، ولكن كيف عرفت ذلك؟فقال الفراهيدي: ارضخت هذا السؤال للغة، فنحن اللغويون نجد أن المصغر لا يصغر، فالحية على سبيل المثال تصبح حوية، ثم لا يمكن تصغيرها مرة أخرى فاعترف الشيخ بهزيمته.
هذه الحكاية ذكرتني بالشاعرة بروين حبيب عندما أهدتني كتابيها " تقنيات التعبير في شعر نزار قباني" وديوانها الشعري "رجولتك الخائفة..طفولتي الورقية" فعدت بذاكرتي فورا إلى فترة الثمانينات عندما حضرت مسرحية "مرحبا بالأحبة" التي كانت من إخراج حسن عبد الرحيم العائد من موسكو بشهادة براءة الإخراج المسرحي قبل أن يغرق نفسه في بحر التدريس، رأيت وأنا أتابع المسرحية بدهشة كبيرة فتاة صغيرة ورشيقة في أدائها باللغة العربية الجميلة تقدمها دون ابتذال حتى كادت تتحول هذه الفصحى إلى لهجة عامية خفيفة على السمع بعيدة عن عصر يوسف وهبي في القاهرة، رشيقة في أسلوب الأداء وفي حركاتها، فصرخت في نفسي أننا أمام ميلاد ممثلة عظيمة، يبدو عليها أنها ستكبر وستصبح ثمرة ناضجة قادرة على العطاء...قبل موسم الحصاد..
ولم أكتم إعجابي، وشاهدي هو المخرج نفسه عندما بحت له عن هذا الإعجاب وسألته عن اسم الصغيرة فقال:بروين حبيب.
ولم تمر سنوات فإذا هي وجه إعلامي متألق، ثم لم تمر سنوات أخرى إلا وهي باحثة وكاتبة تثير الإعجاب، ولم تمر سنتان إلا وهي شاعرة، ترى ألا ينطبق على هذه الممثلة المبدعة قانون الخليل بن أحمد؟!
فتذكرت ساعتها قول أبي الطيب المتنبي:
فإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
وعندما بدأت في قراءة كلمات الإهداء الموجهة لي اكتشفت أنها رشيقة كذلك في خطها، ورشيقة حتى في اختيار الكلمات، ورشيقة في اختزال الواقع السياسي في كلمات قليلة معبرة حيث قرأت فيها كل آلام الغربة، وآلام المنفى الاختياري حيث قالت:"العزيز المشاكس أبدا..عبدالله العباسي، لتكن القصيدة نصا غائبا لغربتنا المتواترة..بعيدا عن النهارات المدججة بالقبح والأقنعة..إليك أيها الرائع"بروين حبيب-دبي.
ألا تدل هذه الكلمات القليلة في مساحتها..العميقة في أطروحتها..إنك ترى دموع آلام الغربة من خلال كلماتها..ترى كل الصخور التي كانت تقف في وجه طموحاتها الفكرية، وهي ترى نهارات الزمن قبحا مدججا وأقنعة تزيف الحقائق التي تقلب الفرح مأتما لأنها صارت تدنس بهجة الوجود وكأنها توافق على أحداث قصة إعدام في الربيع للكاتب المجري "ألكسندرو ساهايا" مما يؤكد أن هذه البروينة "قد بدأت رحلة الألف ميل الثقافي بأكثر من خمسمائة خطوة وليس مجرد خطوة واحدة".
وديوانها الأول" رجولتك الخائفة..طفولتي الورقية" الذي هو من نسيج شعر الحداثة المقارب من شعر التفعيلة، هذا النوع من الشعر الذي بحاجة لآذان متطورة قادرة على استيعاب ما فيه من موسيقى ومن معان بحاجة في كثير من الأحيان إلى حاسة سادسة وسابعة ليتعرف القارئ على ما يعنيه الشاعر لكنه كما قال أحد النقاد السودانيين مرة وهو يقدم ديوان شعر مماثل: مهما اختلفنا حول هذا الشعر إلا أنه فن كتب له البقاء، ألم نكن نكره سماع سيمفونيات بيتهوفن؟ ألم نكن نرى في سيمفونيات باخ وخوشيدريان وغيرهما أنها تسبب الهستيريا؟ ومع مرور الأيام صار الكثير منا يتمتع بها وصار يتأمل بإصغاء صوفي لها، هذا الشعر يحتاج إلى شيء من الزمن وشيء من سعة الصدر والقراءة المتميزة المتأنية مع شيء من خلفية التاريخ والاجتماع والسياسة لندرك ما يود أن يصرح به هذا الشاعر أو يهمس به ذاك.
أنا في اعتقادي أن هذا اللون من الشعر رغم أن الخلاف حوله بين التقليديين من سلفيي الأدب والمصرين على أن يعيش كما كان في العصر الجاهلي مهما تقدم العالم وتطورت احتياجاته وآلياته وبين الذين يريدون القطع الكامل لكل صلة بذلك التاريخ وذلك التراث بحرقه دون إبقاء أي أثر له إلا في تسميته "بالشعر" لم يحسم بعد إلا أنه حسب رأي ذلك الناقد "فن كتب له البقاء" وأضيف على تقييمه فأقول: فقط إذا تمكن الطرفان أن يلتقيا عند نقطة وسط بحيث يتنازل التقليديون عن تشبثهم الحنبلي بتلك القافية المتكررة العميقة مع كل الاعتذار للخليل أحمد الفراهيدي وعن تشبث شعراء النثر بالطلاق الكامل بينهم وبين الموسيقى والقافية ببلوغ مرفأ مقارب هو شعر التفعيلة الذي يجمع بين الموسيقى والقافية وتنوع الموضوع واتساع مساحة التحرك في طرح كل القضايا والهموم دون قيود القافية الواحدة، ودون الانفلات الكامل والتسيب المتناهي من قانون الشعر العربي.
إن أجمل ما في شعر النثر الذي بين يدي الآن وأنا أقرأ قصيدة "كاولا" ذلك المتسع من المجال للقراءات المختلفة لأن في كل كلمة متناقضة صورة ترسمها الشاعرة، هذه الصورة عندما تجمع شتاتها لا يتفق عليها اثنان بل القارئ الواحد نفسه لأن هذا القارئ يرسم أكثر من صورة أمامه كي يصل إلى اقرب الموانئ الموصلة إلى رؤية الشاعرة لنقرأ القصيدة:
لا فراغ، لا موسيقى تنخر الروح،
لا غموض يتوسد المرمر الضائع خلفك،
لا متاهة تورق أساطير
بعدك،
لا عزلة في هذا المساء
وأنت تتنامى في الجسد المكتسي هدوء الخيبة.
كنا ثلاثة
والخوف كان،
ولا شيء، لا شيء،
سوى أهداب نافذة
تطلّ
على ضحكة تفرّطت
بين أوراق التوت وتوردت على الماء.
ترى أي عبقري يستطيع إدراك ما تعني هذه الكلمات المتقاطعة في مثل هذه القصيدة:لماذا وضعت ست كلمات في هذا الشطر؟ثم لماذا اكتفت بلكمة واحدة في شطر آخر؟فلو أردت أن أفسر ما تعنيه الشاعرة في البيت الأول وهو "لا فراغ، لا موسيقى تنخر الروح" إن الشاعرة تود أن تقول: إن الروح القوية للإنسان لا يضعفها الحزن ولا يصرعها فراغ الموسيقى التي تدخل السرور إلى قلب مثل هذا الإنسان لأنه أصلب من أن ينحني أمام الهموم أو يوقفه عن مسيرة نضاله غياب ساعات الفرح.
وأعتقد كذلك أن من الأفضل أن يقرأ الإنسان هذه القصائد وهو يغمض عينيه ليتصور مشهدا يرسمه في مخيلته بعد قراءة القصيدة كلها.ولنستشهد بقصيدة من قصائد التفعيلة لأحد الشعراء لنرى أنه طرح كل ما يريد قوله دون أن يخلق توترا ذهنيا وتشتتا فكريا بعيدا عن عالم الألغاز والتيه والغرق في بحر لا محدود من البحث والتأمل ليتمكن أن يصل إلى نتيجة ما، قد تكون صحيحة أو مغلوطة.
لم هذا التعذيب؟ولم هذا الجلد القاسي من شعراء النثر للقارئ؟ماذا يستفيد شعراء النثر من هذا الإغراق في اغتراب المعنى والكلمات والتراكيب معا؟ ألا يكفي الإنسان العربي شبعا من تعذيب الأنظمة بتضييق الخناق عليه وتشتيت فكره وهو البائس الذي يعاني عذابات البحث عن اللقمة من أجل فمه وفم أولاده ليأتوا هؤلاء ليضيفوا ثقلا آخر على رأسه.
أليس من اليسر والأمتع أن تقرأ قصيدة لشاعر معاصر مماثل لكنه لم يقطع صلته بالتراث الشعري العربي ويواكب المعاصرة فيجمع بين حلاوة الموسيقى وضرورة الابتعاد عن إزعاج القارئ وتعذيبه، وطرح قضية تحمل هموم هذا الشاعر وتطلعاته، لنقرأ فقرة قصيرة من قصيدة "المجد للإنسان" للشاعر المصري بدر توفيق لنجد كل أشكال التمرد على الشعر التقليدي ولكن دون قطع العلاقة معه:
"المجد للإنسان"
المجد للإنسان حين يحمل انتظاره
وشوقه الطويل
ويغفر الثقوب والستار والظلام
المجد للإنسان حين يحمل السلاح
وقهر انفعاله
ويغمر المكان بالصلاة والسلام
وينتهي بالصمت، وهو عاشق الكلام
ألم يطرح الشاعر قضية معاصرة هي قضية إنسان يريد أن ينعتق من أسار الانتظار والشوق الطويل لكسر قيوده والقفز فوق سور الكلمات بحمل السلاح وقهر الانفعال الذي يجعله يتردد في حسم رغبته من أجل السلام عن طريق العمل الحقيقي بعيدا عن أجواء الكلام والخطب التي لن تحقق طموح العربي في سلام يحفظ كرامته.
وبقدر ما أنا واثق أن شاعرتنا لديها من الصور الشعرية الرائعة والتراكيب الممتعة المعاصرة إلا أنها بحاجة مثل غيرها من شعراء مدرسة النثر إلى تطوير لغتها الشعرية والتراجع إلى مرحلة شعر التفعيلة التي يعتقدون أنهم تعدوها وقفزوا فوقها ولن يأتي ذلك إلا من خلال تطوير لغتهم الشعرية وتوسيع قاموسهم اللغوي.
وديوانها الذي يضم 17 قصيدة وتقع في 70 صفحة يتصدر غلافة إحدى لوحات الفنان التشكيلي الفرنسي شاغال حيث أدخلها في تصميمه الفنان السوداني علي الجاك وقد صدر دار الفارابي للنشر والتوزيع وتم طبعه في المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت.
وإن كان كتابها الأول القيم "تقنيات التعبير في شعر نزار قباني" هو رسالتها للماجستير، فإن الفراشة التي تعودت على التحليق دائما بصدد دراستها الثانية لنيل الدكتوراه في موضوع يكاد لم يسبقها أحد إليه وهو " الجسد واللغة في شعر الشاعرات الخليجيات" وخير تقييم سهل وممتنع ودقيق لديوانها هو ما قاله الناشر عنه وعنها عندما كتب على الجانب الآخر من الغلاف "قصائد هذا الكتاب تضعنا مباشرة أمام عمل المخيلة في مواجهة الأصعب في الفن، أمام تدفق العصي والجميل المؤلم من الصور والمشاعر والأفكار والرغبات، وقد رجعت الشاعرة بها في قوام فني فاتن، وبناء شعري ينهض على صور وتراكيب مبتكرة، ويشف عن خبرة لافتة في العلاقة مع اللغة والتلذذ بالكلمة وظلالها، وما الجرأة في هذا الديوان إلا جرأة الفن، ووعد مبكر بميلاد شاعرة".
ولتعذريني أيتها الفراشة الجميلة القوية التي تأبى إلا أن تنتقل من زهرة لأخرى، تأجيل الحديث عن كتابها تقنيات التعبير إلى وقت آخر حتى لا أظلم هذه الدراسة القيمة والكبيرة في كتاب قد يعتقد البعض هو إبحار في بحر ضحل لا خوف فيه من الغرق لأن المتحدث عنه هو نزار قباني الذي قدمت عنه وعن شعره عشرات الدراسات بينما كتابها يفوق كل تلك الدراسات عمقا وشمولية وتفصيصا لكل جزئيات شعر ذلك الراحل الكبير، ولقد خالفت أيتها العزيزة المثل القائل "أول الغيث قطرة" فقد حولت المثل بعد دراستك المتميزة عن الشاعر نزار قباني إلى "أول الغيث شلال" فليبارك الله كل خطواتك وعساك دائما على القوة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق